التربس.....والصحة العامة (الجزء الأول)

التربس.....والصحة العامة (الجزء الأول)

تشير حقوق الملكية الفكرية بصفة عامة إلى الحقوق القانونية التي يتم إسباغها على الإبداعات الناتجة عن النشاط الفكري في مختلف المجالات من الصناعة والعلوم، أو الفن. ونجد أنه من خلال نظام براءات الاختراع كأحد أهم مجالات حقوق الملكية الفكرية ، يتم منح المخترعين حقوقا إستئثارية عن اختراعاتهم لفترة زمنية محددة مقابل الكشف عن تفاصيل اختراعاتهم ، ولعل هذه الحماية للمخترعين تعد الحافز لهم للمزيد من الإبتكارات والتطوير والذي نراه بشكل واضح في مجال الأدوية واللقاحات والتي تستلزم إنفاق كبير ومجهودات في البحث والتطوير،

وبينما يرى البعض أن سياسة الملكية الفكرية تعمل على النحو المنشود ، يرى آخرون أن حماية براءات الاختراع وإنفاذها يجب أن يوازن بين مصالح صاحب حقوق الملكية الفكرية ومصلحة المجتمع الذى لانزال نرى إحتياجات العديد من الفئات فيه إلى الدواء  ، و سوف نقوم بإلقاء الضوء على واحدة من أهم الإتفاقيات المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية وهي اتفاقية التربس (إتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية ) وسوف نتطرق إلى علاقتها بالحق في الرعاية الصحية ، فمع بدء تطبيق اتفاقية التربس تحت رعاية منظمة التجارة العالمية، بدأت حقبة جديدة غير مسبوقة لمعايير حماية حقوق الملكية الفكرية واشتراط حد أدنى من تلك المعايير لابد من تطبيقه، كما تم اشتراط على أعضاء منظمة التجارة العالمية تنفيذ أحكام إتفاقية التربس كشرط لعضويتهم، وهو ما رأته معظم الحكومات أمرا لامناص منه في ظل منظومة الإقتصاد العالمي، 

ولعلنا إذا نظرنا إلى الوضع ما قبل تطبيق اتفاقية التربس ، نجد أنه حرصا من الدول النامية على توفير الأدوية للمرضى بأسعار معقولة تتناسب مع مستويات الدخل ، فقد اتجهت تشريعات تلك الدول إلى استبعاد الاخترعات الدوائية من الحماية المقررة ببراءات الاختراع وهو ما كنا نراه في قوانين البراءات ، على سبيل المثال القانون المصري الملغي رقم 32 لسنة 1949 ، حيث كان يحظر منح براءة اختراع عن الاختراعات الكيميائية المتعلقة بالأغذية والعقاقير الطبية أو المركبات الصيدلانية، إلا إذا كانت هذه المنتجات تصنع بطرق أو عمليات كيميائية خاصة وفي هذه الحالة كانت تنصرف الحماية إلى طريقة التصنيع ، وهو ما كان يتم الأخذ به في العديد من الدول، 

إلا أنه مع دخول الملكية الفكرية كعنصر من عناصر النظام التجاري العالمي الجديد، ومع ظهور إتفاقية التربس تم وضح حد أدنى من معايير حماية حقوق الملكية الفكرية كما سبق وأشرنا، وقد تجاوز هذا الحد الأدنى المعايير التي كانت تسود في الدول النامية، فنجد أن اتفاقية التربس قد ألزمت الدول الأعضاء بها بأن تتيح إمكانية الحصول على براءات اختراع لكافة الاختراعات سواء أكانت منتجات أم عمليات صناعية في كافة ميادين التكنولوجيا طالما توافرت بها الشروط اللازمة ، كما أوجبت على الدول عدم التمييز بين الاختراعات على أساس مكان الاختراع أو المجال التكنولوجي الذي ينتمي إليه أو ما إذا كانت المنتجات مستوردة أم منتجة محليا،


كما تضمنت إتفاقية التربس نظام لحماية المعلومات غير المفصح عنها والذي تضمن حماية البيانات والإختبارات السرية والمعلومات الأخرى التي يلزم تقديمها إلى الجهات الحكومية المختصة للحصول على ترخيص بتسويق الأدوية والمنتجات الكيميائية الزراعية، مما بالتبعية يؤثر على نشاط صناعة الأدوية لاسيما بالدول النامية التي تفتقر إلى إمكانيات تصنيع الأدوية وأنشطة البحث والتطوير ، وتعتمد شركاتها بصفة أساسية على إنتاج الأدوية غير المحمية ببراءة الاختراع والتي تنتجها الشركات الكبرى وسبق لها اختبار صلاحيتها من خلال التجارب التي أجريت عليها للتأكد من الأمان والفاعلية،

وبالتالي فإن نظام المعلومات غير المفصح عنها يحرم الدول النامية  من الإستفادة من بيانات الاختبارات ونتائج التجارب التي سبق إجراؤها، وبالتأكيد فإن دعم حماية حقوق الملكية الفكرية بهذا الشكل في ظل إتفاقية التربس يعود بالفائدة بشكل أكبر على الدول المتقدمة والتي تمتلك العلم والتكنولوجيا وغالبية إن لم يكن كافة الإبتكارات في مجال الأدوية،

إلا أن أن إتفاقية التربس قد تضمنت بعض المرونات التي قد تخفف من الآثار السلبية لمعايير الحماية التي أشرنا إليها في الدول النامية والتي سنتطرق إليها في المقالات القادمة.


                 علياء محمد اسماعيل              

خبير بمنصة  دعم حقوق الملكية الفكرية والإبتكار

      مشروع Ecosys – بنك الإبتكار المصري

         أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا



    • Related Articles

    • سبل حماية حقوق الملكية الفكرية دوليا "الجزء الأول"

      إذا تطرقنا لسبل حماية حقوق الملكية الفكرية دوليا، مثل براءات الاختراع والعلامات التجارية والتصميمات والنماذج الصناعية وغيرها من الحقوق،  فسنجد العديد من الأنظمة التي يمكن من خلالها التقدم للحماية في العديد من الدول ، وسنقوم أولا بإلقاء الضوء على سبل ...
    • الملكية الفكرية والرياضة "الجزء الأول"

      من أبرز المناسبات الرياضية التي نشهدها على مستوى العالم هي دورة الألعاب الأولومبية ، وحقوق الملكية الفكرية تلعب دورا بارزا في حماية مختلف الحقوق التي تظهر من خلال تلك المناسبة وغيرها من المناسبات الرياضية ، فنجد على سبيل المثال في مجال حماية العلامات ...
    • سبل حماية حقوق الملكية الفكرية دوليا "الجزء الثاني"

      كما سبق وأشرنا بالمقال السابق فإنه يترتب على إيداع طلب بموجب معاهدة التعاون بشأن البراءات عدد من المزايا ومنها أثر التعيين التلقائي لكل الدول المتعاقدة الملتزمة بالمعاهدة في تاريخ الإيداع الدولي. ويكون أثر الطلب الدولي هو نفسه في كل دولة معينة كما لو ...
    • سبل حماية حقوق الملكية الفكرية دوليا "الجزء الثالث-العلامات التجارية"

      ترغب العديد من الشركات في استخدام علامتها التجارية في العديد من البلدان المختلفة، ولعل السبيل التقليدي لذلك هو الذهاب إلى كل دولة على حدة ، حيث أن العلامات التجارية ، مثل غالبية حقوق الملكية الفكرية ، هي حقوق إقليمية ، مما يعني في الأساس أن حمايتها ...
    • سبل حماية حقوق الملكية الفكرية دوليا "الجزء الرابع-التصميمات والنماذج الصناعية"

      نشأ نظام لاهاي للتسجيل الدولي للتصميمات والنماذج الصناعية من الحاجة إلى إلى تبسيط إجراءات الإيداع لطلبات الحماية الخاصة بها في العديد من الدول ، ولكي يمكّن أصحابها من الحصول على حماية للتصميمات والنماذج الصناعية بأدنى حد من الإجراءات الشكلية ...